بقلم: د. خديجة حياري
لا أقسى على “مغاربة الشتات” من تلك المكالمة الهاتفية “الصاعقة” حينما يأتي الصوت المغربي، أبحاً و مرتبكاً من خلف السماعة، و يحاول بعناء، الارتقاء إلى سلَّمي اللباقة و الدقة، مراعاة لحساسية الموقف و تحسبا لأي ردة فعل من المهاجر، قبل أن يُخرج الخبر من حنجرته و يصفع أذنك، فيزيد من شتاتك.
و على الرغم من توجسك أنت من دَبِّ المنيَّة في أجَل والدك، تراوغ -بمشقة- و عبثاً تحاول إنكار الحدث، فتجتر المتحدث لك بسلاسة و لباقة موازيين، بعيداً عن تصورات حدسك. و فيما هذا الأخير يبحث عن ثغرة في الحديث يمرر عبرها الخبر الصاعقة، تتصدى له أنت بحيلة السيطرة على مجرى الحديث، محاولة بائسة أخرى منك تدفع بها ألمك المسبق، و لو لثواني معدودة.
كل هذا يحدث في ثلاثين ثانية أو أقل، و في نهاية شطحتك السخيفة تملصاً من الخبر، تجد نفسك باستسلام الحمائم لمخالب الصقر في أعناقها، مستسلماً لشفرة القدر الفاصلة، فتعلو رأسك سحابة بيضاء و جبينك عرقا باردا من هول الصدمة و تمر طفولتك اللذيذة كلها أمام عينيك و تتمنى لو أنك لم تكبر أو أنك لم تهاجر بعيداً عن ذاك الأب الحنون، الرجل المغربي المنسي الذي أهداك بذرة ميلادك و نادرا ما اعترفت بنبله، و سهر على نشأتك و أجلت العرفان بفضله، و فنى حياته من أجلك، و أجَّل مشروع سعادته هو من أجل إسعادك.
ذلك الصوت خلف السماعة كان صوت والدتي و تلك كنت أنا -مغربية الشتات- في الضفة الأخرى من المحيط، و أنا بمطار جون ف. كيندي بولاية نيويورك أستعد لركوب الطائرة باتجاه المغرب، تحديدً بتاريخ 1/24/2019.
دق هاتفي ساعتها فصار قلبي يدق، لا! لم يدق، كان يلطم رأسه مع جدران أضلعي و صار كل شيء من حولي يدق أيضاً حد أنني في أثناء سماع خبر وفاة والدي لم أميز إن كنت أعلو فوق تلك السحابة البيضاء و أصعد للأعلى، أم أنني كنت تحتها و تدفعني لأتهاوى، و لم أذكر إن كنت واقفة و بحاجة للجلوس، أم أنني كنت جالسة و بحاجة للوقوف، شعرت بدوان الأرض حول نفسها و معها كان رأسي يدور.
الموت..
إنه الوجه الآخر لعملة الحياة، الحقيقة الراسخة التي لطالما سمعنا عنها دون أن ندرك تداعياتها على نفسية مغاربة الشتات إلا عندما يداهمنا.. إنه الضيف المغضوب عليه و غير المرغوب فيه، الفاقد لآداب الزيارة، فهو حينما يأتي لا يقرع الباب، بل يخلعه ليقطف أعز الأرواح من بستان قلبك، منتزعاً معه قطعة منك!
قد يستوقفك الحدث الجلل للتأمل في أسرار الكون الخفية عن الإنسان و يدعوك للسفر في أغوارك بهدوء، فتجد في الكلمات التي تعرفها معناً تعزي به قلبك المذبوح، و قد يغزوك حزن مابعد الحدث يبقى معك لسنوات، و عندما لا تجد في الحكمة من شعلة تنير بها نفسك المزلزلة، سيجثم على صدرك و يضغط بقوة و بشدة، ليغدو صاحبك الحميمي رغماً عنك، فيستعصي عليه تركك فيما يصعب عليك أنت العيش بدونه.
يأتي الحزن على شكل موجات و في ما يلي نصائح، لمن يعنيهم الأمر من مغاربة الشتات، تساعد على تخطي محنة الحزن القاتم بعد وفاة شخص عزيز.
١- “تألم، فإن الألم يصنع العظمة.”
أحداً لا يهرع لعناق الحزين، فالحزن حزنك و الألم ألمك، يأتي لفتح شقٍّ يتسلل إليك منه شيئا من النور، ليرق قلبك و تصعد من مرتبة مجرد بشر جامد إلى إنسان روحاني متفهم متأمل راقي و ذكي عاطفياً، يحس بألم الآخرين و يفهمهم من نظرة أو من حركة بسيطة.. عانق ألمك بروح الأنبياء و لا تعرضه على الآخرين متوقعاً أن يحمل وزره عنك أحد أو يتقاسم عتمتك أحد.. أحداً لا يهرع لعناق القلب المجروح، احفر هذا في روحك! و بدل ذلك احضن نفسك أنت بحب، ضمد جرحك بنفسك، ابكي وحدك ثم تأنَّق (من الأناقة) و واصل الكفاح لأجل من رحل عنك ، و تقدم لحلاوة الحياة مرفوع الرأس و شامخ القامة؛ فلا أجمل من العيون التي بكت دمعا حاراً و لا أرق من القلب الذي شقه الألم!
في المقابل، افتح قلبك لكل الناس و اسمح لمن تطوع لمساعدتك على تخطي فترة الحزن، خاصة إذا كان صديق/ة يفهمك أو شخصاً مر بذات الأزمة.
٢- لكل طريقته الخاصة في التفاعل مع الحزن.
فمثلما لكل شخص بصماته الخاصة به، كذلك الحزن، هو شعور خاص يختلف التعامل معه من شخص إلى آخر و ليس شرطاً أن تحزن بنفس الطرق التقليدية التي يحزن بها الآخرون.. صبَّ لوعتك في العمل لساعات أطول، تطوع لعمل خيري دون أن تخبر أحد، فجر طاقة الحزن بالتردد على gym أو في المشي مسافات طويلة في مكان جميل، غوص في القراءة أو في كتابة ألمك.. و ما أدراك، فقد تولد عندك موهبة جديدة لم تكن تعرف أنها موجودة فيك، المهم هو أن تنشغل بشيء يمنع طاقة الحزن من التوسع فيك و التفرد على فتراس قلبك.
٣- الحزن السليم و الحزن المركب.
الحزن لموت شخص عزيز عاطفة طبيعية، لكن إذا زادت عن حدها انقلبت عليك و صارت معدية، فحاذر أن تهمل أفراد أسرتك فتمرر لهم طاقة حزنك، لاشعوريا. يصبح الحزن مركبا عندما تأذن له بأن يغزوك لفترة طويلة المدى و تطالب شريك حياتك بأداء ضريبة حزنك، إذ قد تتفرع عنه عواطف سلبية أخرى كالغضب تجاه أقرب الناس إليك بدون مبرر، و اليأس من التطلع للمستقبل، و الخوف من مواجهة الحياة، و الإحساس بالذنب أنك لم تقدم لهم نفسك أكثر لمن فقدت.. هنا يجب الحذر من الوقوع في خطإ تسلية هذه العواطف السلبية. بدل ذلك، اغفر لنفسك كما تغفر للآخرين، فالتعثر قليلا جائز و الوقوف في المحطات غير المتوقعة لفترة وجيزة مغفور لك، لكن الجمود مكانك و الإحساس بالشلل الفكري و العاطفي و الفيزيولوجي لفترة طويلة يعني توقفك أنت عن النمو في الوقت الذي تحول الغضب فيك إلى مرارة ، و الحزن إلى عزلة، و الشعور بالذنب إلى إحساس بالخزي، ليصعب عليك الشفاء، بعد أن ساهمت في ترسيخ الحزن بداخلك.
٤- الحزن يأتي على شكل موجات.
الحزن على فراق شخص عزيز شعور لذيذ و ماكر لأنه من السهل تبريره، فكن أنت ألذ و اشتغل على ذاتك بحيث تكون أشد مكراً، فعندما تعتقد أن مد الحزن قد تراجع و أنت تعد الأيام التي نجوت فيها بنفسك و تبتسم، قد تعصف بك موجة حزن أخرى بشكل فجائي، و تأخذك من حيث لا تتوقع لتعيدك إلى الغرق في عاطفة الحزن القاتم مرة أخرى؛ هذا طبيعي في بداية الطريق إلى التعافي من الشدة، لكن حاذر أن تستسلم لموجة قوية تعيدك إلى النقطة الصفر، فطبيعة الحزن أنه يرتفع إلى أن يصل الذروة ثم ينحدر، إلى أن يتلاشى..و قد تدوم هذه الفترة بين ٦ أشهر إلى سنتين.
٥- خروج الحزن عن السيطرة و ضرورة العلاج.
قد تشعر بالهوان في البداية، لكن التراجع النفسي و الفيزيولوجي و السيكولوجي و الركوض الاقتصادي غير طبيعي، و إذا وجدت نفسك محاصراً بالعواطف السلبية حد أنك بدأت تخسر علاقاتك الاجتماعية و الأسرية أو تفقد الرغبة بالعيش أو السيطرة على مجرى حياتك، فقد تكون دخلت في حالة اكتئاب مزمن و في هكذا حالة لا تتواطأ في طلب العلاج النفسي أو الارشادات من متخصصين في هذا المجال.